وفسر قوله تعالى: " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " أي: وانتفخت لظهور نباتها فيكون من هذا الباب وفسروها بأضعف نباتها فلا يكون من هذا الباب.
وأما قوله تعالى: " وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا " فلا يخلو أهلكناها من أن يكون خبراً أو صفة فالذي يقوى الخبر قوله تعالى: وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ".
فكما أن كم في هذه المواضع محمولة على أهلكنا كذلك إذا شغل عنها الفعل بالضمير ترتفع بالابتداء مثل زيداً ضربت وزيد ضربته.
ومن قال: زيدا ضربته كان قوله تعالى: " وكم من قرية أهلكناها " كم في موضع النصب.
فإن قلت: فما وجه دخول الفاء في قوله فجاءها بأسنا والبأس لا يأتي المهلكين إنما يجيئهم البأس قبل الإهلاك ومن مجئ البأس يكون الإهلاك فإنه يكون المعنى في قوله أهلكناها قربت من الهلاك ولم تهلك بعد ولكن لقربها من الهلاك ودنوها وقع عليها لفظ الماضي لمقاربتها له وإحانته إياها.
ونظير هذا قولهم: قد قامت الصلاة إذا كان المقيم مفرداً وإن لم تقع التحريمة بها للقرب من التحريمة بها.
ومنه قول رؤبة: يا حكم الوارث عن عبد الملك أوديت إن لم تحب حبو المعتنك فأوقع لفظ الماضي على الهلاك لمقاربته منه ومراده الآتي.
ألا ترى أنك لا تقول: أتيتك إن قمت وإنما تقول: آتيك إن قمت.
فمن حيث كان معناه الآتي قال: إن لم تحب ومن حيث قارب ذاك أوقع عليه لفظ الماضي وكأن المعنى: كم من قرية قاربت الهلاك فجاءها البأس ليلاً أو نهاراً فأهلكناها خبر على هذا.
وقوله فجاءها معطوف.
فإن جعلت أهلكناها صفة للقرية ولم تجعله خبراً ف كم في المعنى هي القرية.
فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم إذ كان كم في المعنى هو القرية.
وعلى هذا قال: " أو هم قائلون " فيعاد مرة الذكر على لفظ القرية ومرة على معناها فيكون دخول الفاء في قوله: " فجاءها بأسنا " على حد: كل رجل جاءني فله درهم فيكون المعنى: كم من قرية جاءها الهلاك فقاربت البأس فكان سبب الإهلاك مجئ البأس لأن الإهلاك إنما يكون عما يستحق له الإهلاك فكأنها استحقت الإهلاك فجاءها البأس فصار نزول البأس استحقاق ذلك.
فإذا سلكت فيه هذا المسلك لم يجز في موضع كم النصب لأن من قال: زيدا ضربته لا يقول: أزيداً أنت رجل تضربه إذا جعلت تضربه صفة للرجل.
وكذلك أهلكناها إذا جعلتها صفة ولم تجعلها خبراً.
ويكون قوله فجاءها في موضع الخبر كما أن قوله فله درهم من قولك: كل رجل يأتيني فله درهم في موضع الخبر.
ويجوز أيضاً أن تكون الفاء عاطفة جملة على جملة على تقدير: جاءها البأس قبل الإهلاك لأن المعنى يدل على أن البأس مجئ الإهلاك فصار جاءها بأسنا كالتبيين للإهلاك لهم والتعريف لوقته.
قال أبو سعيد: دخول الفاء في هذا الموضع ونحوه يجري مجرى الفاء في جواب الشرط وجواب الشرط قد يكون متأخراً في الكلام ومتقدماً في المعنى كقول القائل: من يظهر منه الفعل المحكم فهو عالم به ومن يقتصد في نفقته فهو عاقل.
ومعلوم أن العلم بالفعل المحكم قبل ظهوره وعقل المقتصد قبل الاقتصاد ممتنع.
وإنما يقدر في ذلك: من يظهر منه الفعل فيحكم أنه عالم به.
وكذلك لو جعلناه جزاء فقلنا: زيد إن ظهر منه الفعل المحكم فهو عالم فهو محكوم له بالعلم بعد وكذلك قوله تعالى: " فجاءها بأسنا بياتاً " لما أهلكها الله حكم بأن البأس جاءها بياتاً أو بالنهار.
ومعلوم أنه لا يشترط في الآخرة شروط الثواب والعقاب.
وفي هذا جوابان.
أحدهما: أن معنى " فمن يعمل " أي: فمن يظهر ذلك اليوم في صحيفته خير أو شريرى مكافأته.
والآخر: أن المعنى: فمن يعمل في الدنيا.
ويكون كون الفاء بعد ذكر ما ذكر في الآخرة على معنى: أن ما يكونه الله في الآخرة من الشدائد التي ذكرها توجب أنه من عمل في الدنيا خيراً أو شراً يره كما يقول القائل: الآخرة دار المجازاة فمن يعمل خيراً يره.
ولم يرد خيراً مستأنفاً دون ما عمله العاملون.
وقد يكون ذلك أيضاً على مذهب الإرادة فيكون التقدير: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.
وقال الفراء في قوله تعالى: " فجاءها بأسنا " إذا كان الشيئان يقعان في حال واحدة نسقت بأيهما شئت على الآخر بالفاء كقولك: أعطيتني فأحسنت وأحسنت فأعطيتني لا فرق بين الكلامين لأن الإحسان والإعطاء وقتهما واحد.
قال أبو سعيد: وهذا مشبه الذي بدأت به في تفسيره إلا أنه متى جعلنا أحدهما شرطاً جاز أن يجعل الآخر جواباً فتدخل الفاء حيث جاز أن تكون جواباً كقولك: إن أعطيتني أحسنت وإن أحسنت أعطيت وإن يعط فإنه محسن وإن يحسن فإنه معط.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: " ثم تاب عليهم ليتوبوا ": إن ثم زيادة والمعنى على ما قال: لأن المعنى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تاب عليهم ليتوبوا.
فجواب الجزاء إن لم يقدر ثم زيادة غير مذكور.
فإن قال قائل: إن ثم زيادة في قوله: " ثم اهتدى " كما قال أبو الحسن في الآية الأخرى فإنه يكون اهتدى بعد تقدير زيادة ثم على تقديرين: أحدهما: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً " إنساناً مهتدياً ويكون حالا.
قال عثمان في بعض كلامه في قوله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ": الواو وإن كان لا يوجب الترتيب فإن لتقديم المقدم حظاً وفضلاً على المؤخر.
ألا ترى كيف قال: " أيديهم عنكم " فقدم المؤخر في موضع تعداد النعم فكان أولى.
وقال أبو علي أيضاً في موضع آخر في قوله تعالى: " ثم تاب عليهم " ثم زائدة وقد يجوز أن يكون جواب إذا محذوفاً و " ثُمَّ تَابَ عَليَهِمْ " معطوف على جملة الكلام أي: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض تنصلوا وتندموا ثم تاب عليهم.
وإذا بعد حتى للجزاء وهي بمعنى: متى أي: وأما قوله تعالى: " ثم محلها إلى البيت العتيق " فإن ثم للعطف على تراخ وقد عطفت في الآية النحر الذي هو بآخرة أو الطواف الذي هو الخاتمة على الانتفاع بما يقام في المناسك في الدين أو بمنافع البدن والهدايا في الدنيا على القولين وكذلك إلى التي هي غاية الفرائض إما لنحر الهدايا وإما للطواف الذي هو غاية إقامة جمع الواجبات.
وقيل معناه: إن أجرها على رب البيت العتيق.
وأما قوله تعالى: " " class="postlink" target="_blank" rel="nofollow">ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " فقد قيل هذا على الإخبار أيضاً أي: ثم أخبركم بالسؤال عن النعيم لأن السؤال قبل رؤية الجحيم.
وقيل: بل المعنى يقال لكم: أين نعيمكم في النار وأين نمتعكم به وشاهد هذه الآى البيت المعروف وهو قوله: قل للذي ساد ثم ساد أبوه ثم ساد من بعد ذلك جده ومعلوم أن سيادة الجد قبل سيادة أبيه وسيادة أبيه قبل سيادته أولا ثم أخبركم بسيادة أبيه ثانيا ثم أخبركم بسيادة جده ثالثا.
الرابع فمن ذلك قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}
والتقدير: اهدنا إلى الصراط فحذف إلى دليله قوله تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " وقوله تعالى: " ويهديهم إليه صراطاً " لأن العرب تقول: هديته إلى الطريق فإذا قال: هديته الطريق فقد حذف إلى.
ومن ذلك قوله تعالى: " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن " أي: بأن لهم فحذف الباء وانتصب أن على مذهب سيبويه وبقي الجر عند الخليل والكسائي.
ويكثر حذف المثل لجر من أن ويقل مع المصدر يحسن أن يضرب والتقدير: من أن يضرب ولا يحسن حذف: من ضرب.
وأما قوله بعوضة فقيل: التقدير: أن يضرب مثلاً ببعوضة وما صلة زائدة فحذف الباء.
وقيل: ما نكرة في تقدير: شئ و بعوضة بدل منه.
وقال أبو علي في معنى الآية: لا يجوز في القياس أن يريد أصغر منها.
وقد حكى عن الكلبي أنه يريد: دونها.
وقال ابن عباس فما فوقها الذباب فوق البعوضة وهو الحسن.
قال أبو علي: وإنما يجوز هذا في الصفة هذا صغير وفوق الصغير وقليل وفوق القليل أي جاوز القليل.
فأما هذه نملة وفوق النملة وحمار وفوق حمار يريد أصغر من النملة ومن الحمار فلا يجوز ذلك لأن هذا اسم ليس فيه معنى الصفة التي جاز فيها ذلك.
الفراء: فما فوقها يريد: أكبر منها وهو العنكبوت والذباب ولو جعلت في مثله من الكلام فما فوقها تريد أصغر منها لجاز ولست أستحسنه لأن البعوضة غاية في الصغر فأحب إلى أن أجعل فما فوقها أكبر منها.
ألا ترى أنك تقول: تعطى من الزكاة الخمسون فما دونها والدرهم فما فوقه ويضيق الكلام أن تقول: فوقه فيهما أو دونه فيهما.
وموضع حسنها في الكلام أن يقول القائل: إن فلاناً لشريف.
فيقول السامع: وفوق ذلك يريد المدح.
أو يقول: إنه لبخيل.
فيقول: وفوق ذلك.
يريد بكليهما معنى أكبر.
فإذا عرفت الرجل فقلت: دون ذاك فكأنك تحطه عن غاية الشرف أو غاية البخل.
قال عثمان: يمكن أن يكون تقديره: فمن عفى له من أخيه عن شئ فلما حذف حرف الجر ارتفع شئ لوقوعه موقع الفاعل كما أنك لو قلت: سير بزيد ثم حذفت الباء قلت: سير زيد.
ومنه قوله تعالى: " فلا جناح عليه أن يطوف جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم " أي في أن تبتغوا أي: في أن يطوف وكذلك: " ليس عليكم " ومثله قوله تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا " أي: في أن تبروا.
وقال أبو إسحاق: بل أن تبروا مبتدأ والخبر محذوف.
ومنه قوله تعالى: " ولا تعزموا عقدة النكاح " أي: على عقدة النكاح لقوله: عزمت على إقامة ذي صباح ليوم ما يسود من يسود ومثله قوله تعالى: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " التقدير: ما لنا في ألا نقاتل فحذف في.
وعن بعض الكوفيين: إنما دخلت أن لأن معناه: ما يمنعنا فلذلك دخلت أن لأن الكلام: مالك تفعل كذا وكذا.
قال أبو علي: والقول هو الأول.
وجه قول أبي الحسن إن أن لغو كإذن يكون لغواً كما تكون هي وكما تكون عوامل الأسماء لغوا ولا يمنعها كونها لغوا من العمل في معمولها كما لم تمتنع عوامل الأسماء كقوله تعالى: " فما منكم من أحد ".
فإن قال قائل: فهلا أجاز في لن أيضاً أجاز في أن كذلك فإن هذا لا يلزمه لأن أن أشد تصرفاً من لن وهي لذلك أحمل للتوسع وأجلد به.
ألا ترى أنها تدخل على الماضي والمستقبل وتدخل على أمثلة الأمر كقولك: كتبت إليه بأن قم وليس شئ من هذا في لن.
ألا ترى أنها تلزم المستقبل ولا تتجاوز عن ذلك إلا أن الوجه فيها مع ذلك ألا تكون ك إذن لأن إذن إذا وقع بعدها فعل الحال ألغيت ولم تعمل فيه وأن قد عملت هنا فلو كانت مثل إذن لوجب ألا تعمل فيما بعدها من الفعل كما لم تعمل إذن إذا كان الفعل الذي بعده فعل الحال ألا ترى أن الاسم في مالك قائماً ينتصب على الحال فكذلك الفعل بعد إذن هنا فعل حال فلو كانت أن ك إذن لوجب ألا تعمل في فعل الحال كما لم تعمل إذن فيه في نحو قولك: إذا حدثت بحديث: إذن أظنك كاذباً.
وأيضاً فلا يجوز أن تكون أن مثل إذن في أن تلغى كما تلغى إذن.
ألا ترى أن فيها من الاتساع أكثر مما في أن تقول: أنا أقوم إذن فلا توليه فعلا.
وتقول: إذن والله أقوم فتفصل بينه وبين الفعل.
والإلغاء سائغ فيه.
فإذا كان له من التصرف ما ليس لأن لم ينكر أن يجوز فيه الإلغاء فلا يجوز في أن لكون تصرفها أقل من تصرف إذن.
وجوز أبو الحسن أن يكون المعنى: وما لنا في ألا نقاتل.
وهذا أوضح ويكون أن مع حرف الجر في موضع النصب على الحال كقوله تعالى: " فما لهم عن التذكرة معرضين " ونحو ذلك ثم حذف الحرف فسد أن وصلتها ذلك المسد.
والحال في الأصل هو الجالب للحرف المقدر إلا أنه ترك إظهاره لدلالة المنصوب عنه عليه.
ومثل هذه الآية في التنزيل: " وما لكم ألا تأكلوا " أي: ما لكم في ألا تأكلوا.
الذي عليه البصريون حذف المضاف على تقدير: كراهة أن تؤتي.
قال أبو علي: في الآية أن لا يخلو من أن يكون منتصباً بأنه مفعول به أو مفعول له فلا يجوز أن ينتصب بأنه مفعول به وذلك أن الفعل قد تعدى باللام إلى قوله: " لمن تبع دينكم " كما تعدى بها في قوله: " وما أنت بمؤمن لنا " فإذا انتصب هذا بأنه مفعول به لم ينتصب به مفعول آخر فإذا لم ينتصب بأنه مفعول به انتصب بالوجه الآخر والتقدير: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم: كراهة ذكر أن تؤتي أحد وذكر أن يحاجوكم.
وهذه الآية عندنا على غير ما قاله الشيخ رحمه الله والتقدير: ولا تؤمنوا بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم إلا من تبع دينكم فالباء مضمر وأن يؤتي مفعول لا تؤمنوا واللام زيادة ومن تبع دينكم استثناء من أحد على التقدير الذي ذكرنا.
ويجوز أن يكون قوله لمن تبع دينكم من صلة تؤمنوا وإنما لا يتعدى الفعل بحرفين إذا كانا متفقين وأما إذا كانا مختلفين فالتعدى بهما جائز.
وقد استقصينا هذه المسألة في غير كتاب من كتبنا.
ومن ذلك قوله تعالى: " واختار موسى قومه " أي من قومه فحذف من.
وإن زعمت على أنه ليس على حذف الباء وإنما هو من باب " والعاديات ضبحاً " لم يمكنك تقدير زور على لفظه وإنما تقدره: ظالمين مزورين فتعدل أيضاً عما تلزمنيه.
وفيما يتعلق به هذا اللام اختلاف واضطراب: في قول أبي علي مرة: هو متعلق بمحذوف ولم يعلقه بقوله " إذا تتلى " ولا بقوله قال الذي هو جواب إذا قال: لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله.
قال في التذكرة: ومن لم يدخل همزة الاستفهام كان أن متعلقاً ب عتل وذلك كأنه القليل الانقياد وأنشد أبو زيد: وعتل داويته من العتل من قول ما قيل وقيل لم يقل فإن قلت: كيف جاز تعلقه بقوله عُتل وهو موصوف وما يعمل عمل الفعل إذا وصف لم يعمل عمله ألا ترى أنه لم يستجز ولم يستحسن: مررت بضارب ظريف زيداً وقد وصف عتل ب زنيم.
فالقول: إن ذلك إنما لم يستحسن لخروجه بالصفة إلى شبه الاسم وبعده من شبه الفعل وقد يعمل ما يبعد من شبه الأسماء نحو: مررت برجل خير منه أبوه وإن كان غير ذلك أحسن.
والإعمال في الآية له مزية وإن كان قد وصف وذلك أن حرف الجر كأنه ثابت في اللفظ لطول الكلام ب أن ولأن أن.
قد صارت كالبدل منه ومن ثم قال الخليل في هذا النحو: إنه في موضع جر وإذا كان كذلك فقد يعمل بتوسط الحرف.
وقد ينتصب أن من وجه آخر غير ما ذكرنا وذلك أن قوله: " إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين " يدل على الإنكار والاستكبار وترك الانقياد فأعمل هذا المعنى الذي دل عليه هذا الكلام في أن وكان التقدير استكبر وكفر لأن كان ذا مال وبنين.
فأما من أدخل الهمزة فقال: أأن كان ذا مال وبنين.
فقد يكون في موضع النصب أيضاً من وجهين: أحدهما: أن ما تقدم مما دل من قوله عتل صار بمنزلة الملفوظ به بعد الاستفهام فكأنه: ألأن كان ذا مال وبنين يعتل أو يكفر أو يستكبر ونحو ذلك.
فأما قوله في التنزيل: " يرسل السماء عليكم مدرارا " إن حملت السماء على التي هي تظل الأرض أو على السحاب كان من هذا الباب وكان التقدير: يرسل من السماء عليكم مدرارا.
قال أبو إسحاق: قال أبو عبيدة: المعنى كل طريق.
وقال أبو الحسن: على محذوفة.
المعنى: على كل مرصد.
وانشد: نغالى اللحم للأضياف نيئاً قال أبو إسحاق: كل مرصد ظرف كقولك: ذهبت مذهبا وذهبت طريقا وذهبت كل طريق فلست تحتاج إلى أن تقول في هذا الأمر بقوله في الظرف نحو: خلف وقدام.
قال أبو علي: القول في هذا عندي كما قال وليس يحتاج في هذا إلى تقدير على إذا كان المرصد اسماً للمكان.
كما أنك إذا قلت: ذهبت مذهباً ودخلت مدخلا فجعلت المدخل والمذهب اسمين للمكان لم نحتج إلى على ولا إلى تقدير حرف جر.
إلا أن أبا الحسن ذهب إلى أن المرصد اسم للطريق كما فسره أبو عبيدة.
وإذا كان اسما للطريق كان مخصوصا وإذا كان مخصوصا وجب ألا يصل الفعل الذي لا تتعدى إليه إلا بحرف جر نحو: ذهبت إلى زيد ودخلت به وخرجت به وقعدت على الطريق إلا أن يجئ في شئ من ذلك اتساع فيكون الحرف معه محذوفاً كما حكاه سيبويه من قولهم: ذهبت الشام ودخلت البيت.
فالأسماء المخصوصة إذا تعدت إليها الأفعال التي لا يتعدى فإنما هو على الاتساع.
والحكم في تعديها إليها والأصل أن يكون بالحرف.
وقد غلط أبو إسحاق في قوله: " كل مرصد " حيث جعله ظرفاً كالطريق كقولك: ذهبت مذهبا وذهبت طريقا وذهبت كل مذهب في أن جعل الطريق ظرفاً كالمذهب وليس الطريق بظرف.
ألا ترى أنه مكان مخصوص كما أن البيت والمسجد مخصوصان.
وقد نص سيبويه على اختصاصه والنص يدل على أنه ليس كالمذهب.
ألا ترى أنه حمل قول ساعدة: لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب على أنه قد حذف معه الحرف اتساعا كما حذف عنده من: ذهبت الشام.
وقد قال أبو إسحاق في هذا المعنى خلاف ما قاله هذا.
وأما قوله: " ثم السبيل يسره " فقد قالوا: التقدير: ثم يسره للسبيل وإنها كناية الولد المخلوق من النطفة في قوله " من أي شيء خلقه من نطفة خلقه " ثم يسره للسبيل فحذف اللام وقدم المفعول لأن يسر يتعدى إلى مفعولين أحدهما باللام قال: " " class="postlink" target="_blank" rel="nofollow">ونيسرك لليسرى " فسنيسره لليسرى " ولو قالوا إن التقدير: ثم السبيل يسره له فحذف الجار والمجرور لكان أحسن.
بخلاف مذهبه أعني سيبويه حيث جعل ليسجننه الفاعل وإن كان جملة.
فإذا كان كذلك كان في قوله: يا موسى بمنزلة ليسجننه عند سيبويه هذا سهو.
ومثله: " وأنا اخترناك " في قراءة حمزة بفتح الألف والتشديد والألف والنون على تقدير: ولأنا اخترناك فاستمع لما يوحى أي: استمع لما يوحى لأنا اخترناك فاللام الأولى بمعنى إلى لولا ذلك لم يجز لأنه لا يتعدى فعل واحد بحر في جر متفقين وإن اختلفوا في المختلفين.
وزعم الفارسي أن قوله وأنا اخترناك محمول على " أني أنا ربك " فسبحان الله إن من قرأ أني أنا ربك بالفتح يقرأ وأنا اخترناك وهو ابن كثير.
وأبو عمرو فكيف نحمل عليه! إنما ذلك على قوله فاستمع أو على المعنى لأنه لما قال " فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى " كأنه قال: اخلع نعليك لأنك بالوادي المقدس طوى.
ولو قال ذلك صريحا لصلح وأنا اخترناك على تقدير: ولأنا اخترناك: أي: اخلع نعليك لهذا ولهذا.
ومن ذلك قوله تعالى: " فكيف تتقون إن كفرتم يوماً " أي: بيوم فحذف الحرف وأوصل للفعل وليس بظرف لأن الكفر لا يكون يومئذ لارتفاع الشبه لما يشاهد.
وقيل: التقدير كيف تتقون عقاب يوم ومن ذلك قوله تعالى: " تبغونها عوجاً " حكم تعديه إلى أحد المفعولين أن يكون بحرف الجر نحو: بغيت لك خيراً ثم يحذف الجار.
وحكى في قوله تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً " أي: دينا غير الإسلام ف غير على هذا وصف للنكرة فتقدم عليها فانتصب على الحال نحو: فيها قائما رجل.
ومن ذلك قوله تعالى: " " class="postlink" target="_blank" rel="nofollow">نودي أن بورك من في النار " أي: على من في النار.
فلما كانت أن الموصولة بالفعل قد طال الكلام بها جاز إضمار الجار.
ويجوز النصب في موضع أن على هذا والعامل فيه على ضربين: أحدهما أن يكون التقدير: والهدى معكوفاً كراهة أن يبلغ أو لئلا يبلغ محله على تقدير الكوفيين.
فإن قلت: فإن معكوفاً يقتضى حرف جر على تقدير على ولا يكون متعدياً بنفسه والتنزيل قيل: هو محمول على المعنى كأنه قال: والهدى محبوساً كراهة أن يبلغ كالرفث حيث حمل على الإفضاء في قوله: " الرفث إلى نسائكم ".
وجاز ذا لأن المسلمين أحصروا إذ ذاك ويكون معكوفاً في بابه كمدرهم حيث لم يقل درهم ومفؤود للجبان و " ماء معين " ولم يقل: عين وكذلك لم يقل: عكف.
وإن حملته على وصدوكم كان فيه إضمار عن كالأول أو يكون من باب " اختار موسى قومه " أو يكون من باب: بمن تمرر أمرر ولم يحتج إلى: امرر به لجرى الأول.